فصل: نقض أدلة النصارى على ألوهية المسيح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لا شك عزيزي القارئ أن معنى هذه المحاورة أن اليهود فهموا خطأ من قول المسيح: «أنا والآب واحد» إنه يدعي الألوهية فأرادوا لذلك أن ينتقموا منه، ويرجموه، فرد عليهم المسيح خطأهم، وسوء فهمهم بأن هذه العبارة لا تستدعي ألوهيته، لآن «آساف» قديمًا أطلق على القضاة أنهم آلهة، بقوله الثابت في المزمور الثاني والثمانين الفقرة السادسة [82: 6]: «أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم».
ولم يفهم أحد من هذه العبارة تأليه هؤلاء القضاة، ولكن المعنى المسوغ لإطلاق لفظ آلهة عليهم أنهم أعطوا سلطانًا أن يأمروا ويتحكموا ويقضوا باسم الله.
وبموجب هذا المنطق السهل الذي شرحه المسيح لليهود، ساغ للمسيح أن يعبر عن نفسه بمثل ما عبر به آساف عن أولئك القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله.
ولا يقتضي كل من التعبيرين أن في المسيح، أو أن في القضاة لاهوتًا حسبما فهمه اليهود خطأ.
هذا ولو لم يكن ما ضربه المسيح لهم من التمثيل جوابًا قاطعًا لما تخيلوه من إرادة ظاهر اللفظ، لكان ذلك مغالطة منه وغشًا في المعتقدات المفضي الجهل بها إلي سخط الله، وهذا لا يليق بالأنبياء المرسلين الهادين إلي الحق.
فإن كان المسيح هو رب العالمين الذي يجب أن يعبد، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم المثل، فيكون قد أمرهم بعبادة غيره، وصرفهم عن عبادته، والتقدير أنه هو الإله الذي يعبد، فيكون ذلك غشًا وضلالة من المسيح لهم وهذا لا يليق بالأنبياء والمرسلين فضلًا ممن يدعى فيه الألوهية.
هذا وقد أطلق الكتاب المقدس لفظ الله على كثيرين ولم يقل أحد أن فيهم طبيعة لاهوتية طبقًا للآتي:
1- ورد في سفر القضاة [13: 21، 22] إطلاق لفظ الله على الملك: يقول النص «وَلَمْ يَتَجَلَّ مَلاَكُ الرَّبِّ ثَانِيَةً لِمَنُوحَ وَزَوْجَتِهِ. عِنْدَئِذٍ أَدْرَكَ مَنُوحُ أَنَّهُ مَلاَكُ الرَّبِّ. فَقَالَ مَنُوحُ لاِمْرَأَتِه نموت موتًا لأَنَّنَاقَدْ رَأَيْنَا الله».
وواضح أن الذي تراءى لمنوح وامرأته كان الملك.
2- ورد في سفر الخروج [22: 8] إطلاق لفظ الله على القاضي: يقول النص: «وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم، هل يمد يده إلى ملك صاحبه».
فقوله: إلى الله، أي: إلى القاضي.
3- وكذلك أيضًا جاء في سفر الخروج [22: 9] إطلاق لفظ الله على القاضي: يقول النص «في كل دعوى جنائية من جهة ثور أو حمار أوشاة أو ثوب أو مفقود ما، يقال: إن هذا هو، تقدم إلى الله دعواها، فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه باثنين».
فقوله إلى الله، أي: إلى القاضي نائب الله.
4- كما أطلق الكتاب المقدس لفظ إله على القاضي فقد ورد في المزمور [82: 1]: «الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي».
5- وأطلق الكتاب المقدس لفظ الآلهة على الأشراف فقد ورد في المزمور [138: 1] قول داود عليه السلام: «أحمدك من كل قلبي، قدام الآلهة أعزف لك».
6- وأطلقه على الأنبياء كموسى في سفر الخروج [7: 1]:
يقول النص: «قال الرب لموسى: انظر أنا جعلتك إلهًا لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك».
والخلاصة:
لو كان إطلاق كلمة الله أو إله على المخلوق يقتضي أن اللاهوت حل فيه للزم بناء على النصوص السابقة أن يكون الملك والقاضي والأشراف يكونون آلهة، وهذا لم يقل به أحد.
ولكن بالنظر لكون الملائكة والقضاة نوابًا عن الله أطلق عليهم كلمة الله وبالنظر إلي أن أولئك الأشراف فيهم صفة المجد والقوة اللتين يوصف بهما الله، أطلق عليهم لفظ الله مجازًا.
وبعد كل ما قد ذكرناه نقول أن الواجب فهمه من قول المسيح: «أنا والآب واحد» إنما يريد أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد، ويقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجته، ويطالب له بحقوقه وكذلك قول المسيح: «من رآني فقد رأى الآب» يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي وهذا ما يقتضيه السياق الذي جاءت به هذه الفقرات لأن أسفار العهد الجديد اتفقت على عدم إمكان رؤية الله طبقًا للآتي:
1- ورد في إنجيل يوحنا [1: 18]:
«الله لم يره أحد قط».
2- ما ورد في إنجيل يوحنا [5: 37]: «والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته».
3- ما ورد في رسالة يوحنا الأولى [4: 12]:
«الله لم ينظره أحد قط».
4- ويقول بولس في رسالته الأولى إلي تيموثاوس [6: 16] عن الله:
«الذي لم يره أحد ولا يقدر أن يراه».
فإذا تقرر ذلك فليس معنى قول المسيح «الذي رآني فقد رأى الآب» ان الذي يرى المسيح يرى الله لأن ذلك طبقًا للأدلة السابقة من المحال.فلابد من المصير إلى مجاز منطقي يقبله العقل وتساعد عليه النصوص الإنجيلية المماثلة الأخرى.
وبمراجعة بسيطة للأناجيل نجد أن مثل هذا التعبير جاء مرات عديدة، دون أن يقصد به قطعا أي تطابق وعينية حقيقية بين المفعولين.
مثلًا في إنجيل لوقا [10/ 16] يقول المسيح لتلاميذه السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد للتبشير:
«الذي يسمع منكم يسمعني والذي يرذلكم يرذلني والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني».
ولا يوجد حتى أحمق فضلا عن عاقل يستدل بقوله: «من يسمعكم يسمعني» على أن المسيح حالٌّ بالتلاميذ أو أنهم المسيح ذاته!
وكذلك جاء في إنجيل متى [10/ 40] أن المسيح قال لتلاميذه: «من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني».
ومثله ما جاء في إنجيل لوقا [9/ 48] من قول المسيح في حق الولد الصغير:
«من قبل هذا الولد الصغير باسمي يقبلني ومن قبلني يقبل الذي أرسلني».
ووجه هذا المجاز واضح وهو أن شخصا ما إذا أرسل رسولا أو مبعوثا أو ممثلا عن نفسه فكل ما يُعَامَلُ به هذا الرسول يعتبر في الحقيقة معاملة للشخص المرسِل أيضا.
وإذا عدنا للعبارة وللنص الذي جاءت فيه، سنرى أن الكلام كان عن المكان الذي سيذهب إليه المسيح وأنه ذاهب إلى ربه، ثم سؤال توما عن الطريق إلى الله، فأجابه المسيح أنه هو الطريق، أي أن حياته وأفعاله وأقواله وتعاليمه هي طريق السير والوصول إلى الله، وهذا لا شك فيه فكل قوم يكون نبيهم ورسولهم طريقا لهم لله، ثم يطلب فيليبس من المسيح أن يريه الله، فيقول له متعجبا: كل هذه المدة أنا معكم وما زلت تريد رؤية الله، ومعلوم أن الله تعالى ليس جسما حتى يرى، فمن رأى المسيح ومعجزاته وأخلاقه وتعاليمه التي تجلى فيها الله تبارك وتعالى أعظم تجل، فكأنه رأى الله فالرؤيا رؤيا معنوية.
وجاء نحو هذا المجاز أيضا، في القرآن الكريم، كثيرًا كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} الأنفال: 17 أو قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} الفتح: 10 أو قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} النساء: 80.
ولقد ورد في رسالة بولس إلي أهل غلاطية [3: 28] قوله: «لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع».
ونحن نسأل هل يعني هذا القول أن أهالي غلاطية متحدون في الجوهر والقوة وسائر الصفات، أو أنهم متحدون في الإيمان بالمسيح وفي شرف متابعته وهذا هو الأقرب للفهم والعقل.
لقد ورد بإنجيل يوحنا [17: 11] القول المنسوب للمسيح في صلاته لتلاميذه:
«أيها الآب القدوس _ احفظهم في اسمك الذي أعطيتني _ ليكونوا واحدًا كما نحن».
فهل يفهم أن هذا الاتحاد بين التلاميذ هو اتحاد في الجوهر والذات وسائر الصفات؟
لاشك أن هذا الفهم محال إذا لابد أن يكون المقصود أن يكونوا جميعًا واحدًا في حب الخير وان تكون غايتهم ورغباتهم واحدة نظير الاتحاد الذي بين المسيح وبين الله في إرادة الخير والمحبة للمؤمنين وهذا ما يفيده قول المسيح الوارد في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر الفقرة الثانية والعشرين: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد».

.نقض أدلة النصارى على ألوهية المسيح:

.قول المسيح: أنا والآب واحد:

يزعم النصارى أن قول المسيح: «أنا والأب واحد» هو دليل على لاهوته.

.الرد على هذا الاستدلال:

العجب من النصارى أنهم يستدلون من قول المسيح «أنا والآب واحد» على ألوهيته مع ان هذه العبارة جاءت ضمن محاورة جرت بين المسيح واليهود وهذه المحاورة من شأنها تسقط تماما ادعائهم بألوهية المسيح:
أولًا: عندما قال المسيح لليهود في الفقرة الثلاثين من الإصحاح العاشر من إنجيل يوحنا: «أَنَا وَالآبُ واحد» أنكر عليه اليهود هذا القول وسارعوا لرجمه بالحجارة، فعرفهم المسيح وجه خطأهم في الفهم بأن هذه العبارة لا تقتضي ألوهيته وبين لهم أن استعمال اللفظ على سبيل المجاز وليس على حقيقته وإلا لزم منهم أن يكونوا كلهم آلهة!
تأمل معي أيها القارئ الكريم في نص المحاورة بين المسيح واليهود بعد أن قال لهم«أنا والآب واحد»:
«فتناول الْيَهُودُ، أيضًا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَرَيْتُكُمْ أَعْمَالًا صَالِحَةً كَثِيرَةً مِنْ عِنْدِ أَبِي، فَبِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» فأجابه اليهود قائلين: ليس من أجل الأعمال الحسنة نرجمك ولكن لأجل التجديف، وإذ أنت إنسان تجعل نفسك إلهًا فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوبًا فِي شَرِيعَتِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو أُولئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ آلِهَةً وَالْكِتَابُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ فَهَلْ تَقُولُونَ لِمَنْ قَدَّسَهُ الآبُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْعَالَمِ: أَنْتَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: أَنَا ابْنُ اللهِ؟».
لا شك عزيزي القارئ أن معنى هذه المحاورة أن اليهود فهموا خطأ من قول المسيح: «أنا والآب واحد» إنه يدعي الألوهية فأرادوا لذلك أن ينتقموا منه، ويرجموه، فرد عليهم المسيح خطأهم، وسوء فهمهم بأن هذه العبارة لا تستدعي ألوهيته، لآن «آساف» قديمًا أطلق على القضاة أنهم آلهة، بقوله الثابت في المزمور الثاني والثمانين الفقرة السادسة [82: 6]: «أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم».
ولم يفهم أحد من هذه العبارة تأليه هؤلاء القضاة، ولكن المعنى المسوغ لإطلاق لفظ آلهة عليهم أنهم أعطوا سلطانًا أن يأمروا ويتحكموا ويقضوا باسم الله.
وبموجب هذا المنطق السهل الذي شرحه المسيح لليهود، ساغ للمسيح أن يعبر عن نفسه بمثل ما عبر به آساف عن أولئك القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله.
ولا يقتضي كل من التعبرين أن في المسيح، أو أن في القضاة لاهوتًا حسبما فهمه اليهود خطأ.
هذا ولو لم يكن ما ضربه المسيح لهم من التمثيل جوابًا قاطعًا لما تخيلوه من إرادة ظاهر اللفظ، لكان ذلك مغالطة منه وغشًا في المعتقدات المفضي الجهل بها إلي سخط الله، وهذا لا يليق بالأنبياء المرسلين الهادين إلى الحق.